[size=24]فى هذه الأثناء بينما كانت السماء تتخبط مع الرياح ,وترسل قطرات من الشوق تداعب براعم الأشجار ,عندما تجولت الرياح بين أزقة قلب أذابته دموع متخفية تحت ستار القدر ,على ضوء القمر الذي يرسل جدائله الذهبية كي توقظ هموم توسدت الليل وتلحفت السماء .
......ها هو ,رجل مسن قد بلغ ثمانون عاما قبل بضعة أيام له سبعة من الأبناء وخمسة عشر حفيدا يتقافزون حوله بصورة عشوائية , كان يحب أن يمازحهم ويرسم البسمة على تلك الوجوه التى أعياها الزمان,فى هذه الليلة كان يشعر بأن دقات قلبه غير عادية و أن نسمات الهواء تشبع رئتيه فينتفض من مكانه ليستقر بجسده المنهك أمام نافذة تتستر بأوراق الشجر , فى هذه الأثناء سرت بجسده طائفة من الذكريات ..تذكر عندما كان طفلا يلهو بين حقول ثمارها من جنة الرحمان ,تذكر كيف كان يتقافز حول أبيه الذى يحمل فأسه ويرضع هذه الأرض من شوقه لكي يراها جنة تجمع كل ما تشتهيه الأعين , وقفزت الى مخيلته صورة أمه وهى تصنع لهم الخبز و تضع على جمر النار قدرا كي تعد لهم ما يتناولونه وقت الغذاء .
هنا سقطت من عينيه دمعة تلونت بألوان العذاب لانه وان فقد من هم اعز الناس على قلبه الا انه لم يستطع ان يقف ويبكى أطلالهم التى اغتصبت من عدو انتهك حرمة هذه الأرض وقداستها لقد دمر بهمجيته كل هذه الذكريات فلم يتبق منها إلا شظايا متناثرة داخل ذاكرة هذا الرجل المسن .
انهمرت دموعه وتوجه بصورة لا إرادية الى صندوق صغير حفظه طوال تلك السنوات في دولاب وأغلق عليه كي لا تمسه عيون الزمان ,تناول ذلك الصندوق بيد مرتعشة وقلب مسجون بذرات حقد على من سلبوا منه أرضه وعرضه ,تناوله وتوجه نحو كرسي بجانب النافذة ووضع يده ليفتحه وإذا بباب غرفته يفتح واندفع نحوه خمسة من أحفاده يتقافزون حوله كعادتهم , ابتسم لهم ابتسامة تحمل في طياتها شوقا يداعب وجناتهم الوردية ,قال لهم بصوت أسد يزأر أريد أن أقص عليكم قصة لعلها تزرع في نفوسكم بذورا ترونها بدمائكم فياتى يوم تثمر هذه البذور ونجنى منها ثمار العز والكرامة
ارتسمت ابتسامة خفيفة فوق شفاه الأطفال وتجمعوا حوله وعيونهم تقطر هذا الرجل وتستنطق شفاهه.
في هذه اللحظات فتح الصندوق وأخذت نظرات الأطفال تتقافز لترى ما بداخله وعندما اخرج منه بعض الأوراق القديمة التي تآكلت أطرافها صرخ احدهم وقال ما هذه الأوراق يا جدي ,ابتسم الرجل وامسك بيده الأخرى مفتاح كبير الحجم وقال هذه الأوراق هي شرفنا وعرضنا إنها تاريخنا ومستقبلنا يا بني إنها وثائق تؤكد حقنا في هذه الأرض وهذا المفتاح,مفتاح بيتنا الذي داسته حشرات من بني البشر .
إننا يا بني أصحاب ثورة وأصحاب قضية تفانى من اجلها ألاف مؤلفة من خيرة شباب هذا الوطن , نظر إليه احد الأطفال وقال له باستغراب ولماذا يا جدي أليس نحن هنا في بيتنا ودارنا فلم نتقافز إلى الموت ما دمنا نملك ما نريده , ابتسم الجد وامسك بيده وقال والدموع متأرجحة في عينيه هذه الأرض ليس لنا يا بني إنها ملك أصحابها نحن من هاجرنا وتركنا أرضنا عندما تدافعت وحوش البشرية تنهش من عرضنا وأرضنا وتسحق بأقدامها المتورمة تاريخ شعب قد تكلل بالدماء ,لقد تركناها ظنا منا بأننا سنعود إليها بعد يوما أو يومين وها نحن ننتظر الرجوع منذ اثنان وستون عاما لقد تآمر علينا الصديق قبل العدو وشربنا من كأس الحياة بغفلة دون أن نشعر بمرارة هذا الكأس ولكننا اليوم نعانى من بقايا مرارته ونتجرع الأحزان علها تداوى تلك المرار .
كان يتفوه بهذه الكلمات وهو ينظر إلى أوراق الشجر التى كانت تتصارع لكي تسمع قصة أرض داسها الزمان فسأله أحد الأحفاد وهل يمكن أن نعود يا جدي ؟, فنظر إليه الجد وعلامة من السرور تجتاح كيانه وقال بصوت ثابت وعزيمة قوية نعم ,نعم يا بني لنا أن نعود عندما تتعانق قلوبنا ’عندما نجتمع على قلب رجل واحد ,عندما تكون كلمتنا البارود وطعامنا الغضب ,عندما نزرع الثورة في قلوبنا ونسقيها بدمائنا لتثمر وتعود علينا بالكرامة والإباء .
عندما نسطر بدموعنا التاريخ ونجعل من أشلاء شبابنا حروفا تزين تلك السطور في هذا الوقت يمكننا أن نسحق كل عدو ونعيد كرامة عروبتنا التي ما زالت متناثرة على أبواب المؤتمرات والقمم السوداء التي ما جنت سوى الدمار وهلاك الشعوب .
امسك الصندوق وقال وجسده يرتعش ,أوصيكم يا ابنائى بان تحافظوا على تاريخكم وان تدافعوا عنه بكل ما أوتيتم من قوة ,ووضع الصندوق على صدره وكان قد اكفهر لونه وتجمدت يديه وتمتم بكلمات فحواها سنعود يا حيفا سنعود يا يافا سنعود مهما طال الزمان .
في هذه اللحظات أطبق شفتيه وبردت جوانحه وعانقت روحه نجوم السماء , اخذ الأحفاد يبكون جدهم والدموع تسطر بداية طريق رسمه هذا المسن لهم ,فامسك احدهم الصندوق وصرخ بصوت اهتزت له السماوات والأرض سنعود واقسم بالله أننا سنعود سنمطركم عذابا أيها الظالمون سنجنى ثمار العز والكرامة يا جدي اقسم بالله أننا لن نقف صامتين أمام حقنا ,أمام عرضنا وهذا وعد يا جدي وانهار باكيا أمام جثة جده .
لقد سطر هذا الرجل بداية طريق لأحفاده ,ووضع التاريخ بين أيديهم .
لذا سنعود يا حيفا ..سنعود يا يافا ..سنعود يا أشجار الزيتون مهما تكالبت علينا الأمم..........
بقلمى ......نغم الجراح